لبنان والتضخم المالي وصرف الدولار
بعد سلسلة من التعاميم الرسمية، والاتفاقيات الشفوية مع الصرافين من أجل تعديل سعر صرف الليرة المنهارة امام الدولار، سقط سعر الصرف أخيراً بضربة “الحاكم” القاضية. بجرة قلم مسح حاكم المصرف المركزي بروباغندا تثبيت سعر الصرف التاريخية بوصفها ركن الاقتصاد وحجر زاويته الجالب للاستثمارات، وأدخلنا منفرداً عصر التحرير المجهول العواقب، وسط صمت حكومي مطبق.
تعاميم وقرارات واجراءات واتفاقيات تؤخذ منذ أشهر طويلة على أساس رد الفعل، وبشكل متناقض، همايوني وعشوائي، بعيداً من فعل تدخل الحكومة وخطتها الموعودة، التي على ما يبدو استقالت من دورها في تقرير الأمور المصيرية والأساسية، كتحديد سعر الصرف، وتخلت عن سيادتها بتحضير مشاريع القوانين المالية البالغة الأهمية وإرسالها الى البرلمان للتصويت عليها. فـ”المادة 70 من قانون النقد والتسليف لا تجيز لـ”المركزي” التصرف بسعر صرف الليرة إنما بحماية قيمتها، وهما شيئان منفصلان”، بحسب تغريدة مستهجنة تعليقاً على تعميم مصرف لبنان الأخير للخبير في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين.
إذاً، أصدر أمس مصرف لبنان تعميماً جديداً حمل الرقم 151. التعميم يسمح لعملاء المصارف الذين لا يستفيدون من التعميم رقم 148 أو أولئك الذين يملكون أكثر من 3 آلاف دولار او 5 ملايين ليرة، من “إجراء سحوبات أو عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المستحقات العائدة لهم بالدولار الأميركي أو العملات الاجنبية بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق، لكن استناداً الى الاجراءات والحدود المعتمدة لدى المصرف المعني”. وهو ما يعني بأن اجراءات السحب على سعر صرف السوق، المحدد أولياً بـ 2600 ليرة، وسط تساؤلات تتمحور حول المقصود بعبارة “الحدود المعتمدة” الواردة في التعميم، وما إذا كانت تعني اقتصار السحوبات على المبالغ التي كانت تدفعها المصارف بالدولار أسبوعياً أم شهرياً.
التعميم لا يحتمل التأويل بأنّ القرار بتحرير سعر الصرف قد اتخذ، والمركزي باشر بالتنفيذ. وهو يمهد مع ما سبقه من تعاميم لبداية نهاية اسطورة التثبيت. فتحرير الصرف لا يحدث، بحسب الخبير الاقتصادي جان طويلة، “بين ليلة وضحاها”، بل هو عبارة “عن مسار متدرج يسمح للأسواق بامتصاص الصدمة، ويخفف الانعكاسات التضخمية الناتجة عن زيادة الكتلة النقدية بالعملة الوطنية”. فالليرات التي تضخ في الاسواق سيكون هدفها الاول والأخير هو التحول الى دولار، ومع النقص الهائل في العملة الخضراء وارتفاع الضغط في السوق الموازية سيدفع تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الى تضخم غير مسبوق. وهو ما يدفع بحسب طويلة إلى “إجراء اختبارات ضغط والعمل بشكل متناسق ومتأنٍ من أجل الحد من الآثار التضخمية”.
وقف التداول بالدولار بشكل نهائي هو خطوة تصب في القريب العاجل في مصلحة المصارف قبل أي أحد آخر. فهي تخفف الضغط على ما تبقى لديها من سيولة في الخارج وتسمح لها بإدارتها بشكل أفضل، بدلاً من استنزافها في السحوبات النقدية كما كان يحدث في الآونة الاخيرة. ومن الجهة الاخرى فان هذا التعميم يؤشر صراحة بحسب طويلة إلى “بدء تحرير محدود في سعر الصرف، لنصل في النهاية بعد فترة زمنية محددة إلى تحرير كامل وشامل”.
“التفاوت في سعر الصرف بين “المنصة” في المركزي المولجة بتحديده بناء على التعميم 149 وبين السوق الموازية سيستمر لفترة ليست بقصيرة، ثم سيبدأ هذا الفارق بالتقلص تباعاً، عندما يعي الجميع بأن شكل الاقتصاد تغيّر، والمطلوب التأقلم مع الواقع الجديد”، يقول طويلة.
“أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً”، مثل صحيح كان بـ”ود” الجميع أن ينطبق على بدء عملية تحرير سعر الصرف، إنما المشكلة برأي بعض الخبراء هي في عدم مواءمة القرار مع خطة محكمة وواضحة تؤمن السيولة وتمتص النقمة على المصارف، وتردم العجز وتضبط التنفيذ بإشراف دولي موثوق وتطبق الإصلاحات بجدية ومسؤولية. عوامل تهدد بضياع النتائج الإيجابية التي قد تنتج عن تحرير سعر الصرف وتؤدي إلى مزيد من التضخم وامتصاص القدرة الشرائية للمواطنين.
كلفة هذا التأخير كانت باهظة على الإقتصاد. ولو قدّر للمسؤولين التخلي عما كان يدرّه عليهم “التثبيت” من منافع، وتخلوا عن هذه السياسة باكراً لكانوا حفزوا الصناعة الوطنية وزادوا من قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية، ووفروا على الوطن والمواطن آلاف الملايين…. من الدولارات طبعاً.