كيف نقرأ حسابات النصر والخسارة في الحرب الدائرة مع العدوّ؟
كيف نقرأ حسابات النصر والخسارة في الحرب الدائرة مع العدوّ؟
بقلم: حمد رستم | ٢٧-١٠-٢٠٢٤
في المفهوم التاريخي للحروب وحسابات النصر والخسارة، كان هناك مفهوماً نمطيّاً تقليديّاً لمظهر النصر أو الهزيمة، ورُسِّخَ في أذهاننا وأصبح قالباً يحفظه العقل الباطن ويسقطه على ما نشاهده على شاشات التلفزة بوصفه هو المقياس الحقيقي لما نرى ونسمع، حيث أنّ مفهوم الانتصار في الماضي كان أن تدخل الجيوش المدن وتدكّ أسوارها وتقتحمها، وترفع شارات النصر عليها حين يستسلم الجيش المدافع ثمّ يُعزل الحاكم أو يُقتل ويُستولى على العرش، وهكذا يكون الانتصار بائناً وواضحَ المعالم لا لبس فيه، هناك منتصر بقوّة السيف وهناك مندحر أمامه ومستسلم.
على هذا النمط دُجِّنَتْ عقولنا لفهم حسابات النصر والخسارة، وهذا قد يكون مربوطاً بتراكمات معرفيّة واطّلاعنا على إرث الحروب وتاريخها عبر الأزمنة.
ولكي نفكّك مفهوم النصر والخسارة في علم السياسة الحديث وفي بحر وفير من عناصر التأثير والتكوين والعوامل المتشعّبة، وبعيداً عن الأهواء والدوافع او حتى الحسابات السياسية الضيقة، سوف نحاول تعريف وظيفة الحروب، لكي نستنتج ونقيس حسابات النصر والخسارة من خلال مدى تأدية الوظيفة المرجوّة من الحرب.
إذاً للحروب وظيفة تُخاض لأجلها وهي أنّ كلّ طرف يحاول أن يخلق لعدوّه عقبات وعقد مستعصية على الحلّ لا يستطيع حلّها إلّا بالتفوّق في الميدان، وترجمة ذلك إلى قوّة في السياسة لتمكينه من فرض المعادلات التي تحلّ تلك العقد المستعصية، وهنا وحسب نتائج الميدان ومدى القدرة على تحقيق الأهداف المعلنة يُحدّد من هو القادر على حلّ عقده بالقوّة ومن لا.
وبناءً على هذا الفهم نستطيع أن نقرأ ونستنتج ونستشرف مشهد النصر في الحرب الدائرة مع العدوّ الصهيوني في فلسطين المحتلّة ولبنان، حيث أنّ هذه الحرب خيضت منذ أكثر من سنة بأهداف معلنة وهي استعادة الأسرى وتدمير بنية حماس ووقف التهديد الدائم من غزّة ولبنان على الكيان، ومؤخّراً أضاف العدوّ هدف إجبار حزب اللّه على الانسحاب والتموضع شمال نهر الليطاني، هذا على صعيد الأهداف المعلنة والتي لم يستطع العدوّ تحقيق أيّ منها بالقوّة والتدمير والقتل والفتك، وهذا لا يُسجّل فيه للعدوّ أي انتصار لأنّه محكوم بسقف نتائج وأهداف هو أعلن الحرب لأجلها وما زال عاجزاً عن تحقيق أيّ منها في الميدان، أمّا في المقابل فإنّ أهداف المقاومة في غزّة هي المطالبة بتبييض السجون ومنع الاستيطان ووقف التعدّي على الأقصى، وفي لبنان حدّدت قوى المقاومة دورها كجبهة إسناد والهدف هو تخفيف الضغط عن غزّة ومشاغلة العدوّ، وبمعنى أوضح بقيت قوى المقاومة تحت سقوف واضحة ومنضبطة، فالعدوّ اليوم منشغل بالحرب، والأسرى بحوزة المقاومة جاهزون للتبادل وتبييض السجون، ونتيجة لفتح جبهة لبنان على مصرعيْها يقوم العدوّ بتحريك قطعاته وفِرقه شمالاً تارةً وجنوباً تارةً حيث بات مستنزفاً على صعيد العديد والبنية العسكريّة والنفسيّة لجيشه.
أمّا في العقد المستعصية التي وضعتها قوى المقاومة في وجه العدوّ ويبدو عاجزاً عن حلّ أيّ منها بالقوّة، بدءاً بعقدة البحر الأحمر التي شلّت عبور السفن فيه، وأغلقت ميناء (إيلات) أم الرشراش وأثّرت عالميّاً على خطوط إمداد الطاقة والنفط والتجارة العالميّة، ثمّ عقدة استعادة الأسرى بالقوّة، وعقدة إرجاع النازحين من غلاف غزّة وشمال فلسطين المحتلّة إلى بلداتهم، وعقدة وقف تهديد الصواريخ سواء من جنوب لبنان أو من غزّة، وعقدة فكّ الارتباط بين جبهتيّ غزّة ولبنان، وعقدة شلل القطاعات الاقتصاديّة داخل الكيان وتعطّل الانتاج، وعقدة هروب المستوطنين إلى بلدانهم الأصليّة خوفاً من الحرب.
السؤال المطروح، هل يمكن للكيان بالقوّة وسفك الدماء والتدمير ومواصلة مجازره أن يحلّ أيّ من تلك العقد المستعصية المتأتّية من الحرب التي فرضتها قوى المقاومة عليه؟؟؟
واضح من خلال الملاحظة والمتابعة والاستنتاج أنّ هناك عجز ميداني عن تحقيق أيّ من أهداف العدوّ المعلنة وإخفاق واضح بحلّ أيّ من العقد الناشئة جرّاء الحرب.
أمّا في المقلب الآخر لم يستطع العدوّ أن يرمي في وجه المقاومة أيّ عقد حقيقيّة غير تحمّل الألم والتضحيات والدمّ وهذا بالنسبة لشعبٍ يكافح من أجل أرضه وحرّيّته أمر محسوب وغاية، صحيح أنّه حمل ثقيل وفيه الكثير من الألم، لكن المعادلات الكبرى لا تُكتَسَب بالنواح والبكاء بل بالتضحيات ودفع الأثمان.
من هنا نقول أنّ حساب النصر والخسارة يُقاس بمدى تحقيق الأهداف المعلنة من الحرب وقدرة كلّ طرف على حلّ عقده المستعصية بقوّة انعكاس انتصارات الميدان، كما لا تُقاس الهزائم بمن دفع أثماناً بالدمّ والدمار أكثر، ولو يصحّ هذا لما كان انتصر السوفييت على الجيش النازي في ستالينغراد ولما انتصرت المقاومة في فيتنام.