عبد الفتاح سكافي.. مسنّ مقدسي يلاحقه الاحتلال في منزله وقبره أيضا

بابتسامة تخفي خلفها مآسي تمتد لعقود، استقبل المسنّ المقدسي عبد الفتاح سكافي الجزيرة نت في منزله المهدد بالإخلاء لصالح المستوطنين في حي الشيخ جراح، وأمام مدفن عائلته في مقبرة باب الرحمة الملاصقة لسور المسجد الأقصى المبارك.

يحفظ عن ظهر قلب كل حجر في الحي، ويسرد بسلاسة تاريخ قدومهم إليه وتوطينهم فيه مقابل التخلي عن حقوقهم كلاجئين.

يصل الزائر إلى منزله عبر صعود سلالم حجرية قديمة، عن يمينها ويسارها منازل ثُبتت على جدرانها الخارجية لافتات كتب عليها “شارع أبو بكر الصدّيق”.

يعكّر صفو المشهد فجأة مصباح يحمله أحد حراس المستوطنين، وهو يتجول متفحصا محيط البؤر الاستيطانية التي زُرعت في الحي بقوة الاحتلال، لكن عبد الفتاح يمضي باتجاه منزله مرحبا بضيوفه غير آبه بالغرباء.

غرباء تغلغلوا بالقوة

قبيل دخول البوابة الحديدية المؤدية لمنزله، تقع عين الزائر على باب أزرق عن اليسار كُتب عليه باللغة العبرية “لافي”، وهو اسم عائلة المستوطنين التي تقطنه.

في الساحة الخارجية يقف المسن المقدسي أمام الأشجار المعمرة التي زرعها والداه في خمسينيات القرن الماضي، ويشرح عن قسوة الحياة إلى جوار المستوطنين.

“تقع نافذة دورة المياه التابعة للبؤرة الاستيطانية داخل ساحة منزلي إلى جوار نافذة مطبخنا، يتعمدون سكب المياه العادمة داخل الساحة ويلقون القمامة دائما، بالإضافة لإقامة الاحتفالات والطقوس التلمودية على مدار العام وبصوت مرتفع مستفز”.

داخل المنزل تجلس زوجته أم علاء، وتتحدث بهدوء رغم خطر الإخلاء الذي يهدد وجودها و12 فردا آخرين من عائلتها، وتقول “تزوجت منذ عقود وأعيش في هذا المنزل، ولو عرضوا عليّ العيش في قصور في أي منطقة بالعالم بدلا منه فسأرفض وأقول إنني أريد أن أكمل ما تبقى من عمري في كرم الجاعوني بحي الشيخ جراح في القدس”.

تسرع إلى فتح الثلاجة وتجمع في كيس بلاستيكي ثمار الفواكه الشتوية التي قطفتها من أشجار منزلها المعمرة، ليتذوق منها الضيوف ويطعموا عائلاتهم.

إخلاء وغرامات

عبد الفتاح الذي توحي تجاعيد وجهه بهموم أثقلت عقله وجسده، قال إنه لم يتفاجأ عندما تسلم في 8 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم أمرا من محكمة الصلح الإسرائيلية، يمهله شهرا لإخلاء منزله لصالح المستوطنين، ودفع غرامة بقيمة 70 ألف شيكل (نحو 21 ألف دولار أميركي).

سارع سكافي وعائلات أخرى في كرم الجاعوني لتقديم استئناف ضد قرار الإخلاء في المحكمة المركزية الإسرائيلية، ودفعت كل عائلة 25 ألف شيكل (7500 دولار أميركي) رسوما للاستئناف.

وقال “لجأنا عام 1948 من حي البقعة غربي القدس بعد تهجيرنا قسرا، ويسعى الاحتلال لتهجيرنا مرة أخرى من الشيخ جراح، ورغم الأذى اليومي الذي يلحق بي وبأبنائي الثلاثة والذي وصل إلى حد محاولة أحد السكان المستوطنين قتل أحدهم وخط شعارات معادية على سياراتنا، إلا أننا نرفض الإخلاء، وفي حال أخلونا بالقوة فلن ألجأ سوى لقبري المهدد بالهدم أيضا”.

قبل 6 أعوام، اشترى سكافي قبرا في مقبرة باب الرحمة الملاصقة لسور المسجد الأقصى، لكن الاحتلال هدمه وقبورا أخرى مرتين بحجة قربها من السور، إلا أن عبد الفتاح يجزم أن مشروع القطار الهوائي التهويدي سيكون له قواعد في المكان، وبالتالي فإن الاحتلال سيجد مبررا لهدم هذه القبور.

الأحياء والأموات ملاحقون

“لدينا مدفن كبير للعائلة، لكن بسبب اكتظاظه بالموتى ولقلة المقابر وضيقها قررت شراء قبر جديد، وها هو الاحتلال يلاحقني حيا في منزلي ويهدم القبر الذي سأدفن به عند مماتي”.

عقد هذا المسن العزم على نصب خيمة فوق مدفن عائلته، والعيش فيها مع زوجته ما تبقى من حياته.

تنقل بين القبر الجديد ومدفن العائلة دون أن يزيح وجهه عن السور وقبة الصخرة المشرفة الظاهرة خلفه، حدّث نفسه بصوت مرتفع قائلا “أنام في الخيمة فوق القبر، وأستخدم دورات المياه العامة في البلدة القديمة، وأتجول فيها لشراء طعامي، ثم أعود للخيمة، وهكذا تمضي الأيام حتى تصعد الروح إلى بارئها وأدفن في القبر الجديد، ربما رفاتي سيحمي القبر مستقبلا من الهدم”.

عائلة سكافي في الشيخ جراح بالإضافة إلى 27 عائلة أخرى تعيش حولهم، صنفوا عام 1948 لاجئين، بعد تهجيرهم قسرا من مدن وأحياء في الداخل المحتل، وقررت الحكومة الأردنية بالتعاون مع الأونروا توطينهم في القدس في الخمسينيات مقابل تخليهم عن حقوقهم كلاجئين.

وتم اختيار هذه العائلات التي بنيت لها وحدات سكنية في كرم الجاعوني وتعاقدت الأردن مع المواطنين على دفع إيجارات لمدة 3 أعوام لتصبح المنازل بعدها ملكا لهم، وانتهت عقود الإيجار عام 1959، وبات المواطنون يتصرفون تصرف المالك في العقارات.

لكن بعد احتلال القدس عام 1967 وضم شطرها الشرقي للسيطرة الإسرائيلية، فوجئ السكان بلجنتين يهوديتين تتوجهان لدائرة الأراضي عام 1972، وتسجلان ملكيتهما لهذه الأرض التي تبلغ مساحتها نحو 18 دونما (الدونم ألف متر).

لم تُخبر هذه اللجان المواطنين بما أقدمت عليه، وبدأت تطالبهم بإخلاء عقاراتهم بادعاء أنه لا حق لهم في ملكيتها، وهكذا تفرعت عشرات القضايا في المحاكم حسب المحامي سامي ارشيد أحد المكلفين بالدفاع عن العائلات.

غش وتزييف

وعن تفاصيل المسار القانوني، أوضح أنه تم رفع دعوى باسم عائلتي حمّاد والصباغ لمطالبة المحكمة بالنظر في ملكية الأرض، بادعاء أن عملية تسجيل المستوطنين لملكيتها تمت عن طريق الغش والتزييف، وأن العائلات تملك حق التصرف بالأرض والمنازل بناء على اتفاقيات مع الحكومة الأردنية.

رفضت المحكمة النظر في الدعوى بناء على التقادم، وقال القضاة إنه كان يجب التوجه للمحاكم للنظر في الملكية خلال 15 عاما على أقصى تقدير.

وأضاف أن عائلة الصباغ التي تعيش في الحي صدر بحقها قرار بالإخلاء عام 2012، لكنه جُمّد تنفيذه، وفي الأشهر الأخيرة تم تجديد إجراءات المطالبة بإخلاء عائلة الصباغ بموجب قرار الحكم الصادر ضدها سابقا.

في الشهرين الأخيرين أيضا، قال ارشيد إن محكمة الصلح أصدرت قرارات بالدعاوى المقامة ضد 7 عائلات أخرى في “كرم الجاعوني”، وفحوى هذه القرارات هو قبول دعوى الإخلاء المقدمة من الشركات الاستيطانية ضد العائلات، وأمرت بإخلائهم في مواعيد مختلفة.

بعد صدور هذه القرارات، تم تقديم استئنافات للمحكمة المركزية، والجميع ينتظر الآن تحديد مواعيد جلسات لسماع الاستئنافات.

ويزعم المتطرفون أن مقاما مقدسا يعود لـ”شمعون الصديق” يقع في قلب كرم الجاعوني، بينما يدحض السكان هذا الادعاء ويؤكدون أن المقام إسلامي يعرف باسم الولي سعد الدين حجازي المدفون فيه منذ 400 عام، وأن خرائط عثمانية تدل على ذلك.

عارف حمّاد عضو لجنة وحدات سكن لاجئي الشيخ جراح، قال إن 160 فردا في الحي وصلتهم مؤخرا أوامر لإخلاء منازلهم، فيهم 46 طفلا، وينتمي هؤلاء إلى 12 عائلة مختلفة.

وبحسب حمّاد، تعيش 28 عائلة ممتدة لاجئة على مساحة 18 دونما في “كرم الجاعوني” بالشيخ جراح، ويبلغ عددهم 600 فرد.

المصدر : الجزيرة


Libanaujourdui

مجانى
عرض